كانت تلك معتبة ربانية وجهها الله جل وعلا لأحد أحب خلقه إليه وجهها لنبى من أنبيائه، القصة بتمامها وتفاصيلها ذكرها النبى صلى الله عليه وسلم وأورد رواياتها الإمامان البخارى ومسلم فى صحيحيهما وتدور أحداثها فى زمان سابق لعصر رسولنا حيث نزَل نبىٌّ منَ الأنبياءِ تحتَ شجرةٍ، فلدَغَتْه نملةٌ، فأمَر بجهازِه فأُخرِج من تحتِها، ثم أمَر بقرية النمل فأُحرِقت بالنارِ، هنا صدرت المعتبة الربانية ونزل الوحى الإلهى يلوم ذلك النبى على تلك العقوبة الشاملة قائلاً: «أحرقت أمة من الأمم تسبح الله» ثم ختمت المعتبة بتلك الجملة التى صدَّرت بها مقالى: فهلا نملة واحدة، أما كان يكفيك أن تعاقب تلك النملة التى آذتك بدلا من أن تعمم عقوبتك على سائر جنسها؟! هو سؤال استنكارى مختصر يبين قاعدة عظيمة كثر ذكرها فى الكتاب والسنة، قاعدة تضىء بالعدل وتسمو بالإنصاف وتتألق بالحكمة المفتقدة بين كثير من الناس مع بعضهم البعض وليس مع نملة، مجرد نملة.
إنها تلك القاعدة القرآنية التى تكررت بنفس اللفظ خمس مرات فى كتاب الله، قاعدة: «ولا تزر وازرة وزر أخرى».. ذلكم المبدأ المنطقى البسيط الذى هو على الرغم من بساطته ووضوحه وبدهيته صار يغيب عن أذهان كثير من الناس اليوم فيعتمدون خطاب الجمع والتعميم ويختارون ثقافة السلة الواحدة التى هى ثقافة مريحة بلا شك لكنها راحة الاستسهال واطمئنان التنطع والكسل، فلماذا ينفق الظالم شيئا من وقته وفكره فى التفصيل والإنصاف بينما هو يستطيع أن يلقى الجميع فى سلة واحدة و«يخلص»، وإن ذكرته بأن «كل نفس بما كسبت رهينة» وأن «لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» وسائر تلك الأدلة القرآنية والنبوية الناصعة التى تبرق بنور الإنصاف والعدل فإن تذكيرك هذا سيصطدم بحواجز مصمتة وضعها على عينيه مروجو تلك الثقافة، ثقافة السلة الواحدة والتعميم المقيت ومبدأ السيئة تعم والعقوبة على المشاع.
ولو أتعب أولئك المستسهلون ذلك العضو الذى وُضع فى جماجمهم وأمروه بالتفكير هنيهة فى مآل تلك الطريقة لحقروا أنفسهم ولربما لم يتمالكوا أنفسهم من الضحك على سطحية رؤيتهم وسماجة مبدأهم ثم لا يلبث ضحكهم إلا وينقلب إلى بكاء حين يكتشفون مدى الظلم والغبن الذى دفعهم إليه شنئان قوم. حين يتفكرون للحظات كيف يحاسب كل أسمر على خطيئة من يشاركه لونه وكيف يعاقب كل أشقر على جريمة ارتكبها شبيهه ولماذا يُلام سمين على كل ذنب اقترفه سمين مثله، مشهد هزلى هو لكنه للأسف يحدث يوميا، مجرد أن تسمع أو تقرأ لإنسان يتكلم مهاجما مخالفه بصيغة الجمع قائلاً: أنتم فعلتم وسويتم تعلم حينئذ أنك بصدد أحد أبناء تلك الثقافة، ثقافة التعميم المريح ومبدأ امتداد العقوبة، ذلك المبدأ الذى حذر منه يوسف عليه السلام بكل وضوح حين عرض عليه إخوته أن يأخذ أحدهم بدلا من أخيهم بنيامين فقال: «معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون».. هذا هو الأصل والقاعدة الشرعية الواضحة، حتى على مستوى الأعراف البشرية الطبيعية - باستثناء الحقب الفاشية والأمم القائمة على التطهير العرقى والإبادة الطائفية- فإن رفض ذلك المبدأ هو الأصل، بل إن هناك دولاً تعد ذلك الخطاب ومآلاته نوعا من التمييز والعنصرية وربما تُخضع مرتكبيها لعقاب شديد يردعهم عن هذا الظلم المقزز والأحمق فى الوقت نفسه. بينما المنصفون فى كل زمان ومكان لا يجرمنهم شنئان ولا يستخفنهم بهتان ولا يعممون طغيان بل يفصلون ويميزون ويفرقون بين الصالح والطالح والمحسن والمسىء ويرفعون دوما ذلك الشعار القرآنى الجليل «ليسوا سواءً» ولو افترضنا جدلا وقوع الخطأ من أى مخلوق غير معصوم فلتكن المحاسبة من نصيب مقترفه ولتكن العقوبة للنملة لا لقريتها ولا تزر وازرة وزر أخرى.
رد القارىء ضياء الدين محمود
"المنصفون فى كل زمان ومكان لا يجرمنهم شنئان ولا يستخفنهم بهتان . . يميزون بين الصالح والطالح والمحسن والمسىء ويرفعون دوما ذلك الشعار القرآنى الجليل «ليسوا سواءً» . . . فلتكن المحاسبة من نصيب مقترفه ولتكن العقوبة للنملة لا لقريتها"
كلام جميل
ولكن ماذا لو كان بقية النمل يقرون النملة على لدغها للنبي؟
ماذا لو كانت بقية النمل تشعر بالزهو لأن إحداها لدغت وأصابت؟
ماذا لو كان بقية النمل عن بكرة أبيهم ما برحوا ينذرون النبي وأصحابه بالمزيد من اللدغ؟
ماذا لو أن النملة التي لدغت جرحت نفسها عمدا ووقفت أمام الكاميرات لتدعي على النبي زورا وبهتانا؟
ماذا لو جاء كبار النمل بصور نمل آخر قتل على يد ظالم جائر لم يلدغه أحد وادعوا أن النبي المسالم وأتباعه هم الذين قتلوا ذلك النمل؟
ماذا لو قام بعض النمل بإنزال ضابط من سيارته ثم قتله ثم صلبه على عامود نور، ثم بعد ذلك سرت السعادة الغامرة بين جميع النمل بهذه الجريمة، وإن أنكروها أمام الكاميرات؟
النملة التي تتحدث عنها يا دكتور ليست فردا يؤخذ بوزره الشخصي، إنها تنتمي إلى عشيرة لا تعترف بخطأ أي عضو من أعضائها مهما اقترف من جرائم.
لا ترى غضاضة في استدعاء جيش من الكلاب والذئاب والثعالب والنمور ليهدم المدينة كلها – وليس عشها فقط – على رؤوس ساكنيها.
نملة تنتمي إلى عشيرة لا تعرف سوى الخيانة.
نملة تتباكى أمام النبي من ظلم وقع عليها فيحتضنها النبي الكريم وعشيرتها ويغمرهم بكرمه ويساعدهم في بناء عشهم في أرضه، ظنا أن النمل سوف يثري المجتمع بنشاطه، ولكن عند أول رقدة من النبي يرسل النمل واحدة منه لتلدغه دون شفقة، لأنه تجرآ وهز عشها الذي تراه مقدسا تهون في سبيله الأوطام والدماء.
التعميم مرفوض يا دكتور حتى بدون استخدام ذلك العضو الذي في جماجمنا، ولكن أرجوك هات لي نملة تختلف عن بقية النمل فكرا وانتماء ونوايا، واستعدادا للدغ ورغبة في التسيد، ومناعة ضد النقد الذاتي وإنكارا للخطأ، وإدمانا للكذب، واستخداما لآيات الله في سبيل مصلحة النمل لا مصلحة الخلق جميعه.
تاريخ ذلك النوع من النمل وحاضره وما ظهر منه مؤخرا يكفي للتعميم.
فكل ذلك النمل مجرم أو مشروع مجرم
خائن أو في الطريق إلى الخيانة عالما عارفا مدركا مصمما
لا يعترف لغيره بحق إلا حق الوقوف بين يدي حكماء النمل ليتعلم ويتلقى الخبز والأكسجين، وإذا حاول شخص أن يكون حرا وأن يؤمن بالله حسبما أنزل على رسوله الكريم من آيات، دون المرور بفقه النمل، فسوف يصنف عند النمل جاهليا ويتوجب قتاله.
شاور لي يا دكتور محمد على نملة مختلفة، على نملة تستنكر اللدغ من قلبها، وليس للضحك على البسطاء، شاور لي على نملة تصدق مع نفسها ومع الله ومع المجتمع، شاور لي على نملة لا ترى في المجتمع شركاء بل غنيمة. إذا لقيتها فأخبرني من فضلك لكي أكف عن التعميم فورا.
ولك انت ان تحكم عزيزى القارىء