السؤال التقليدى لدى القائمين على الدولة وأنصارهم- المعروفين شعبياً بحزب الكنبة- هو: ماذا يريد أنصار الثورة؟ والافتراض الشائع لديهم أننا نرفض فقط، نريد الهدم فقط، أننا لا نعرف ما نريد ولا نعرف ماذا نبنى محل ما نسقطه. وأننا- مجمل أنصار الثورة- نخرج كل فترة بمطالب جديدة ومتزايدة. استشهادات الدولة وأنصارها كثيرة: فقد بدأنا بمطالب سبعة تتعلق بخلق مناخ يسمح بانتخابات تعددية حرة (مطالب الجمعية الوطنية للتغيير)، لكننا طورنا مطالبنا بسرعة خلال «أيام التحرير» الثمانية عشر إلى رحيل مبارك، فوراً، وبعدها أضيفت للقائمة حل الحزب الوطنى، ثم حل أمن الدولة، ثم تعطيل الدستور، ثم القصاص للشهداء، ثم المحاسبة عن كل جرائم الماضى، ثم بعد ذلك إعادة هيكلة الداخلية ثم عودة العسكر للثكنات، وهكذا، فى سلسلة طويلة انتهاء بالمطالبات المتعلقة بالدستور الحالى.
والافتراض الشائع أيضاً لدى القائمين على الدولة وأنصارها أن أى إجراء يتخذونه لن يرضينا، منذ تغيير الحكومة فى أول فبراير 2011، مروراً بتعيين مرشح الثورة- عصام شرف- رئيساً للوزارة والتغييرات الواسعة فى صفوف وزارة الداخلية وقتها وقرارات رعاية مصابى شهداء الثورة وإنشاء لجان تقصى الحقائق وإقصاء الحزب الوطنى وقياداته، وتعيين البرادعى نائباً للرئيس والببلاوى رئيساً لحكومة ذات صلاحيات واسعة ومعظم وزرائها من رموز المعسكر الديمقراطى، وانتهاء بالنصب التذكارى الحزين الذى أقيم وهدم فى ذكرى محمد محمود.
رغم كل ما فعلوا لإرضائنا مازلنا غاضبين لاعنين متظاهرين. ومن ثم يئس القائمون على الدولة منا، وقرروا الاعتماد على قوتهم الذاتية أو البحث عن شركاء سياسيين آخرين يعتمدون عليهم بدلا من هؤلاء الذين لا يعرفون ماذا يريدون ولا أين تنتهى مطالبهم. كل هذا مفهوم. لكن الغريب أن بعض أنصار الثورة اقتنعوا بهذا الافتراض الشائع. وللأفكار يا سادة قوة لا يستهان بها، فلو اقتنعت بأنك ضعيف وبائس فقد انتهى أمرك من قبل أن تبدأ المواجهة. ولو اقتنعت بأنك تائه ومقضىّ عليك فمن المستبعد أن تنجو من المتاهة التى تتصور نفسك أسيرها. وهكذا، انتهى الأمر ببعض أنصار الثورة لليأس من أنفسهم وزملائهم والاقتناع بأنهم لا يعرفون ماذا يريدون، وأنهم يحتاجون سنوات كى يكتشفوا ملامح الحلم الذى أيقظهم من سباتهم فى يناير 2011.
ويسعدنى إبلاغ هؤلاء وهؤلاء بأننا نعرف جيداً ما نريد، وإن كنا لا نضعه عادة فى صيغة واضحة. لكننا لو بذلنا جهداً بسيطاً، وأعدنا ترتيب الأشياء التى نرفضها وتلك التى نطالب بها، واستمعنا بجد لما يقوله الناس فى البيوت والشوارع والجامعات والمقاهى ووسائل المواصلات والإعلام، وقرأنا بتفهم وتعاون ما يكتبه أنصار الثورة، وفحصنا التغيرات التى حدثت فى مصر خلال العشرين عاماً الماضية والتى أفضت لانفجار هذه الثورة- أى لو قمنا بعملنا ككتاب ومحللين- لوجدنا الخيط الذى يربط هذه المطالب وبعضها، ولفهمنا لم لا يثق أنصار الثورة بالقائمين على الدولة ولم يرفضون كل إجراءاتهم وقراراتهم.
ما نريد، نحن أنصار الثورة، فى رأيى، ليس مجرد هذه المطالب التى تظهر من وقت لآخر. فهذه مجرد أعراض لمطلب أشمل وأعم وهو إقامة دولة جديدة فى مصر. هذا هو المطلوب، من الآخر: استبدال الدولة البالية المفككة التى نعانى ونموت فى كنفها بدولة جديدة، عصرية وحديثة تشبه الدول التى نشاهدها فى التليفزيون. دولة عادلة تقيم القانون بين مواطنيها، وتلتزم به مؤسساتها، وتساوى بين غنيها وفقيرها، ضعيفها وقويها. دولة يشعر مواطنوها بالحماية فى كنفها، اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وتوفر لهم الرعاية الأساسية. دولة يحكمها منطق الكفاءة، فى إدارتها وفى تعاملها مع التحديات التى تواجه المجتمع. دولة حرة لا يتلفت المواطنون فيها خوفاً أو يفكرون عشرات المرات قبل أن يقولوا رأيهم الحقيقى. دولة تعين مواطنيها على السعى للرزق وتطلق قدراتهم وتساعدهم على تنميتها. دولة ترعى التعليم والثقافة وتعيد لمصر ما يرى مواطنوها أنه مكانتها ودورها: منارة فى العالم.
هذه الدولة الجديدة منبتة الصلة بالدولة البالية التى أوصلتنا لما نحن فيه اليوم. وكلما حاول القائمون على أمر الدولة إرضاء أنصار الثورة بإجراء ما، جاء هذا الإجراء معبراً عن تفكير وأداء وفساد تلك الدولة البالية التى ثار الناس ضدها، ففقد معناه وغذى غضبهم أكثر.
لا نحتاج لنصب تذكارى آخر يذكرنا بفشل الدولة البالية، ولا لعملية عدالة انتقالية تعكس عدم فهمها للعدالة وللانتقال معاً، وإنما نريد «علامة»، «أمارة» على أن القائمين على الدولة قد فهموا المطلوب وأصبحوامستعدين للتعاون معنا والانتقال من أبنية الدولة البالية إلى أبنية جديدة لدولة جديدة بقوانين ونظم وأسس جديدة. وما دون ذلك سدى.