الحقيقة الوحيدة التي يمكن أن تحسها في مصر الآن وتتحسسها بيدك أيضا هو غياب اليقين عن المستقبل ، لأول مرة تصبح البلاد مفتوحة على آفاق مترعة بالغموض والمفاجآت المحتملة ، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الأمني أو أي صعيد آخر ، تشعر أن البلد معلقة بانتظار تحول ما ، بانتظار شمس جديدة تظهر ، هنا أو هناك ، حدث ربما يحسم مسارات الأمور في اتجاه محدد ، إلهام رباني على الفاعلين الأساسيين في هذا البلد من كل الأطراف أن يصلوا إلى أمر رشد أو ضوء نور جديد يضيء لمصر مستقبلها وتمضي على هدى وطمأنينة مما تبنيه وترتب له ، أزعم أن أحدا في الحكومة أو المعارضة لا يمكنه أن يعطيك رؤية متكاملة للبلد أو يؤكد لك خريطة مستقبلها وهو مطمئن بالكامل لما يقول ، تختلط الأمنيات بالمعلومات ، ويمتزج الهوى السياسي بالحقائق ، فلا تعرف ما هي الحقيقة وما هي الهوى وما هي الأمنية وما هي المعلومة ، ولذلك تعيش مصر هذه الأيام موجة غريبة من الأخبار وتكذيبها والتسريبات وتكذيبها والتصريحات وتكذيبها حتى القوانين وتكذيبها والمفاوضات السياسية وتكذيبها ، , وكثير من الفعل السياسي وحتى التشريعي يتم من تحت الطاولة ، وفي الغرف المغلقة وبعيدا عن الضوء ، كأن الجميع قلق من أن يتم "ضبطه" متلبسا بهذا القرار أو تلك السياسية أو ذلك الإجراء ، والإعلام ضحية لهذا التيه السياسي في الغالب الأعم ، غير أن جزءا من الإعلام هو شريك في التعمية وصناعة التيه أيضا ، لأنه يرتبط عضويا ببعض أطراف الأزمة التي تعيشها البلد ، لدرجة أن بعض المثقفين يتابع الكاتب الفلاني لكي يستشف منه توجهات القيادة العسكرية ، ويتابع الإعلامي الفلاني لكي يتحسس منه رؤية وتقديرات الجهاز الأمني ، ويتابع الصحيفة الفلانية لكي يعرف كيف يفكر الجهاز الفلاني ، مع الأسف . ووسط هذا الغموض يعشش الخوف في الجميع ، وقد لاحظت أن التيار السياسي المصري العام أسير للخوف والقلق بفعل هذا الغموض ، قلقون من تطورات الشارع ومن انفلات الوضع ومن عدم قدرة الفريق السيسي وتياره من حسم الأمور على الأرض أو إنهاء مشروع الإخوان ، ولذلك يبدو بعضهم أكثر وحشية ورغبة في الدماء من بعض الدمويين في المؤسسة الأمنية ذاتها ، وحتى عندما تقع الحوادث البشعة والمروعة يتغافلون عنها ويبرونها ويتفهمون الحاجة إليها ، المهم سحق التهديد الإسلامي ، أيضا هناك قلق مما يبدو أنه ضعف من الدكتور حازم الببلاوي وتردد في اتخاذ القرارات ، وهو ليس ضعفا في الحقيقة بقدر ما هو عدم وضوح الرؤية حتى أمامه هو ، وما حدث في قانون التظاهر شديد الوضوح والخريطة التي أمامه ويعمل وفق حساباتها معقدة ، وكما يقول المثل "اللي على البر شاطر" ، فلو أن أحدا من هؤلاء الذين يتهمون الببلاوي بالضعف واليد المرتعشة ارتقى مكانه فلن يفعل أي شيء أكثر مما فعل على الإطلاق ، أيضا هناك تردد واضح وربما ارتباك لدى الفريق السيسي وتياره تجاه ما يحدث على الأرض وتطوراته ، السيسي تصور أن اللعبة سهلة وبسيطة وأن بعض التخطيط الذي تقوم به الأجهزة واستغلال تناقضات تيارات الثورة وغشومية الإخوان في الحكم يمكنه أن يضرب ضربته ثم يعيد ترتيب كل شيء ، وأن مصر ها تبقى قد الدنيا ، وبكرة تشوفوا مصر ، وهي العبارة التي أصبحت مثار تندر الآن ، لأن الجميع يرى البلاد تتجه من سيء إلى أسوأ ، وبعد قتل الآلاف واعتقال الآلاف ما زال الشارع يهتز بقوة والبلد في حالة عدم اتزان ، كما أن هناك سلسلة أخطاء سياسية وقانونية تم ارتكابها تجعل الرؤية تضيق أمام الفريق السيسي والخيارات تقل ، لأن كل الخيارات قاسية ولها تكاليف عالية ، أيضا الإخوان وحلفاؤهم لا يملكون رؤية واضحة للمستقبل ، ولم يعد واضحا هل التمسك بفكرة عودة محمد مرسي للحكم هي موقف سياسي حقيقي أم موقف تفاوضي ، وما هي رؤيتهم وموقفهم تجاه القوى السياسية الأخرى التي تمثل طيفا واسعا رافضا لهم ومتوجسا من طموحهم السياسي . متى ينقشع الغمام ، متى تبزغ شمس الحقيقة في مصر ، متى يضع المصريون أيديهم على خارطة مستقبل حقيقية وهم واثقون أنها تصنع المستقبل فعلا لا كسبا للوقت ، كل هذا لا يملك أحد الإجابة عليه ، وسيظل معلقا إلى وقت أرجو أن لا يكون طويلا ، لأم بلدا بحجم مصر لا تتحمله .