عن الجوهرى رحمه الله اتحدث

هناك فرق بين أن تكون قادرا على أو حتى أفضل من يستخدم خطة لتحقيق إنجاز، وبين أن تكون أنت من اخترع الخطة أصلا.. ربنا يرحمك يا جنرال

فربما هيلينو هيريرا وأريجو ساكي لم يحصدا كأس عالم في مسيرتهما التدريبية، لكن كل منهما وضع اسمه في التاريخ بما قدمه لكرة القدم.. ولهذا سيظل محمود الجوهري الأهم في مصر بغض النظر عن بطولاته.

الراحل العظيم نقل الكرة في مصر نقلة نوعية، ليس فقط بالتأهل للمونديال وتأسيس نظام الاحتراف ودفع اللاعبين دفعا إلى خارج الحدود لاكتساب خبرات جديدة، بل بأشياء أخرى كذلك لا يتحدث عنها كثيرون.

فخلال يوم الاثنين، تحدث الجميع عن إنجازات الجوهري، كيف أنه أول من فاز بكأس الأمم لاعبا ومدربا، أو مدرب الأهلي والزمالك من مصر.. لحظات انكساره، شخصيته القوية، وكل قصص ممكنة عن الجنرال.

لكني هنا أود التحدث من زاوية مختلفة بعض الشيء.. ماذا قدم الجوهري للكرة المصرية ليصبح اسطورة خالدة بخلاف إنجازاته مع الأهلي، الزمالك، عمان، الأردن وطبعا منتخب مصر.

يعني إيه تدريب؟

هناك نظرة قاصرة في أذهاننا – أذهان بعضنا منعا لقلة الأدب - عن التدريب تتلخص في أنه فقط اختيار التشكيل ووضع الخطة وقيادة اللاعبين في الملعب وإشعال حماسهم معنويا.

لكن هناك جانب أخر لا يقل أهمية في التدريب.. وهو كيفية تعليم اللاعبين تلك الخطط وطريقة تنفيذها في أرض الملعب ورفع قدراتهم من خلال التمرينات.

مثلا.. كيف يتعلم فريق مثل الأهلي والزمالك اسلوب لعب يعينه على خصم دفاعي مثل غزل المحلة يفترض أنه سيستخدم خطة سلبية ويظل قابعا في منطقة الجزاء طيلة المباراة؟

كان هناك التدريبات التقليدة التي يحاول من خلالها المدرب زيادة قدرة اللاعبين على التمرير وسرعة رد الفعل.

وقد كان المدربون قديما يطورون مهارة التمرير عند الفريق بأن يصعنوا صفين متواجهين من اللاعبين، ويمرر كل لاعب الكرة إلى زميله الذي يقف أمامه لمدة زمنية بمختلف أجزاء القدم، باطن، وجه، وخلافه.

أما سرعة رد الفعل فتزيد بأن يصنع المدرب صفين من اللاعبين يقفان متواجهان ويمرران الكرة بشكل تقليدي حتى يسمع اللاعب صوت الصافرة من المدير الفني فيتبادل موقعه مع الزميل الذي يقف أمامه.

حين يرغب المدرب في زيادة سرعة لاعبيه يطلب منهم ركض مسافة معينة في صفوف خلال توقيت زمني محدد يقل مع الوقت والتدريب.

ثم جاء الجوهري

الجوهري كان من القلائل الذي قرر أن يطور التدريب، منفتح على العالم الغربي وما وصلوا إليه في مجال عمله.. وهو من أوائل من أدخلوا الكثير من التمرينات الحديثة للملاعب المصرية.

كان الجنرال يفضل أن يطور كل مهارات لاعبيه من خلال تقسيمة بالكرة لا تمرينات تقليدية، لأن التقسيمة تمثل محاكاة لما يحدث في المباريات.

لذلك كان من أوائل المدربين في مصر الذين يصنعون تقسيمة تزيد سرعة رد الفعل، سرعة اللاعبين، الضغط على الخصم وما إلى ذلك.

فلو أراد الجوهري تعليم لاعبيه كيف يواجهون خصما دفاعيا، سيلعب تقسيمة على نصف ملعب بحيث تكون المساحات ضيقة فتزيد مهارة التمرير وسرعة رد الفعل فيه.

طبعا هذا مجرد مثال سطحي للغاية، لكني اخترته لتصل الفكرة ببساطة إلى القارئ.

التقسيمات التي تنمي تلك المهارات تعود لخيال المدرب، فأنت تستطيع ابتكار عشرات السيناريوهات وتستخدمها لزيادة قدرات لاعبيك بما يتناسب مع خططك واحتياجاتك وما ترغب في علاجه من مشاكل.

وقد كان الجنرال من أشهر المدربين الذين يبتكرون تلك السيناريوهات.. مدرسة تعلم منها عشرات المدربين خاصة في قطاعات الناشئين والأندية التي لا تملك ترف المدرب الأجنبي القادم بالعلم الحديث من الخارج.

وبتلك الملكات كان الجوهري من المدربين النادرين في مصر المتنوع في استخدام الخطط، عكس العديد من المحبوسين في 3-5-2 للآن كون 4-4-2 أصعب في تعليمها للاعبين خططيا.

في حين استطاع الجوهري تنمية لاعبيه لاستخدام 5-4-1 في مونديال 90 و3-5-2 في تصفيات 94 و4-1-2-1-2 في تصفيات 2002 و4-5-1 و4-3-3 في أمم إفريقيا 2002، وبذات الكفاءة.

يقول الجوهري لتفسير اختيار خططه الدفاعية واللعب بكثافة عددية في كأس العالم 90: كان سلاحي هو اللياقة البدنية والكثافة العددية لأننا غير معتادين على مواجهة الكرة الأوروبية والفوارق بيننا ليست صغيرة.

ويتابع الراحل عن تحوله إلى 4-1-2-1-2 "أما في تصفيات 2002 كان لدينا محترفين في أوروبا وعلاقة اللاعبين والمشاهدين بالكرة العالمية زادت، فكان سلاحي المرونة والهجوم الضاغط في خطة اللعب.

وبالفعل لازلت أذكر مصر تلعب بهاني رمزي كارتكاز وحيد في حين مهام الارتكاز الثاني موزعة على طارق السعيد وأحمد حسن، وأمامهما حازم إمام وثنائي هجوم يقوده حسام حسن ومعه بعدها ميدو.

كان الفريق متنوعا وحين احتاج الجوهري لجرعة هجومية قدم بركات في مباراة الخمسة أمام الجزائر، وعبد الستار في الوسط أمام رمزي، ثم حين غاب إمام حمل النجم الأسمر اللواء.

وجبة متكاملة

النقطة الثانية التي أضافها الجنرال لقاموس المدرب المصري هو كيفية عمل برنامج يضبط اللياقة البدنية للاعب وينمي مهاراته في الوقت نفسه.

شدة التمرين بنوعيه المنخفض والمرتفع وتدريبات التحمل الهوائية واللاهوائية وما إلى ذلك، كلها علوم يدرسها طالب التربية البدنية، وكانت غائبة عن مدربين كثيرين في بناء وحداتهم التدريبية.

وقبل المباريات بيوم هناك أشياء وأحمال لو فعلها المدرب سينهار فريقه أو سيلعب بأقدام ثقيلة، أو يكون خفيفا رشيقا حتى الدقائق الأخيرة ويسقط الكل أرضا أو يصاب اللاعب بعد دقائق.

أما الجوهري فكما حكي لنا من قامات أكاديمية وتدريبية في مصر يعد من عباقرة اللعبة في وضع خطط أحمال لمواسم كاملة للأمام بحيث يضمن سلامة لاعبيه قدر الإمكان من الإصابات وليرفع قدراتهم بدنيا.

بالاسم قيل لنا أن الجوهري وحلمي طولان متفردان بقدرتهما على صنع جداول كاملة لتدريبات وتقسيمات بها حسابات بدنية مع تقسيمات فنية ليحصل اللاعب على جرعة متكاملة تهتم به وتجعله في أفضل حالاته.

لهذا قال عنه أحمد الكأس: من لم يتدرب تحت يدي الجوهري، لم يعرف معنى كرة القدم أصلا.

فإرث الجوهري لم يكن فقط بطولات استمتعت بها الجماهير، بل وعلم انتفع به العديد من المدربين، وأه لو كانت مصر سعت لاستخدام هذه الخبرات الرهيبة، لكن عادتنا هي الندم بعد فوات الآون.

ومع كل ركلة حرة تنفذ بشكل مدروس، وكل مدير فني يحقق إنجازا كببرا باستخدام خطة تعوض فارق الإمكانات مع منافسه

ومع كل مدرب يتحدث بالورقة والقلم، ويبث الروح في لاعبيه ويشحنهم ويشحننا معهم.. سأتذكر جنرال الكرة المصرية رحمه الله.