نظر الكثير من الساسة فى مصر إلى التقارب مع روسيا بشىء من المبالغة، صحيح أن العلاقات المنفتحة أمر ضرورى ليس مع روسيا فقط بل مع كل دول العالم، وصحيح أنها خطوة أيجابية نحو التحرر من الارتباط المصرى الامريكى، هذا الرباط الذى اهتز على خلفية أحداث ثورة 20 يوينو وما أعقبها من تطورات سياسية فى مصر أدت إلى سقوط حكم الاخوان المسلمين، لكن أوروبا لا تزال ترى فى زيارة وزيرى الدفاع والخارجية الروسيان لمصر شيئاً أعمق وأخطر، فالإعلام الأوروبى يتحدث الآن عن تغيير استراتيجى فى خريطة الشرق الأوسط السياسية من خلال ثلاثة تحالفات :
الأول: تقارب روسى مصرى عراقى سورى قد يؤدى إلى تحالف سياسى مرتقب
والثانى: تقارب أمريكى إيرانى وقرب انتهاء مشكلة النووى الإيرانى
والثالث: تحالف يضم فرنسا والسعودية ودول الخليج تنظر إلى التحالف الأول بقلق والى الثانى بغضب، وتقف حائرة حول مصالحها فى المنطقة.
هذه الرؤيا الغربية للتطورات الأخيرة فى المنطقة تحتم علينا النظر بعمق ودون مبالغة فى مردود هذا التقارب المصرى الروسى وما قد يتبعها من تحالفات، دون أن نغفل عده مشاهد ترتبط بهذه التحولات الخطيرة فى المنطقة:
المشهد الأول: أن التحالف مع روسيا يجعل مصر فى موقف صعب بين مواجهة أطماع إيران وأوجاع دول الخليج التى ساندت مصر بقوة فى أزمتها الحالية، لأنه يعنى بالضرورة تقارباً أو مهادنة مع أنظمة طائفية أو مستبدة كما فى العراق وسوريا ومن خلفهم أيران، وما يربط روسيا بتلك الدول أكبر بكثير مما يجمعها مع مصر، كما أن التقارب الأمريكى الإيرانى وقرب انتهاء مشكلة النووى الإيرانى وتراجع الولايات المتحدة عن ضرب النظام السورى الذى تزامن مع طلب أوباما من الكونجرس عدم فرض عقوبات جديدة على آثار مخاوف السعودية ودول الخليج بل حتى فرنسا وقد بدى هذا واضحا فى انفعال فابيوس، وزير خارجية فرنسا فى اللقاء الصحفى المشترك الذى عقد هذا الشهر مع وزير الخارجية السعودى الذى بدى هو الآخر منزعجا جدا لهذه التطورات.
وكان رد السعودية على اتفاق جنيف النووى بين مجموعة 5+1 وإيران والذى ينص أيضاً على منح إيران عن منح إيران 7 مليارات دولار مشوباً بالتشكك والريبة إذ بدأ ولى العهد السعودى تعليقه على الاتفاق بجملة «إذا توفر حسن النوايا » وهو ما يعنى أن السعودية ستتعامل مع إيران ومع مضمون هذا الاتفاق بحذر شديد.
المشهد الثانى: يتعلق بالجانب السياسى لروسيا، فروسيا اليوم ليست هى الاتحاد السوفيتى فى الماضى فتلك دولة وذاك زمن، وقتها كان هناك عالم ثنائى الأقطاب أما الآن فنحن فى زمن قطب واحد وهو الولايات المتحدة، وروسيا تحاول أن تسترد ثقلها السياسى فى المنطقة لكن ليس فى مواجهة الولايات المتحدة بل كدولة محورية يمكن أن تؤثر فى شكل القرار مثلها مثل فرنسا أو المانيا، لكن القرار نفسه سيظل فى يد الولايات المتحدة، فهى عندما قررت ضرب أفغانستان والعراق فعلت رغم اعتراض الروس والعالم كله وقتها، وعندما قررت عدم ضرب سوريا لم يكن بسبب ضغوط روسيا بل لأنها رأت أن مصلحتها فى عدم ضربها رغم الضغوط التى مارستها إسرائيل وأطراف عربية كثيرة، فالمصلحة الأمريكية تعلو أية مصلحة حتى لو تعارضت مع إسرائيل أو حلفاء بأهمية دول الخليج.
المشهد الثالث: يتعلق بالجانب العسكرى والاقتصادى لهذا التحالف، عسكرياً مازال التفوق التكنولوجى يميل نسبياً لصالح الولايات المتحدة على روسيا، والاقتصاد الروسى ينمو لكنه لا يستطيع منح مصر معونات سنوية لا ترد ولا يستطيع الانتظار كثيرا لسداد فواتير السلاح، وفى الشق الاقتصادى روسيا لا تملك الشركات العالمية العملاقة الجاهزة للاستثمار خارجها وهو أهم ما تتطلع له مصر فى الفترة القادمة، فإذا نظرت إلى قائمة أكبر 500 شركة فى العالم فإن الولايات المتحدة تمتلك لوحدها أكثر من ثلث هذه الشركات، جلهم فى النصف الأول من القائمة مما يعنى أن تأثير الشركات الأمريكية فى التجارة العالمية يقترب من النصف تقريبا، والغريب أن بعض الساسة فى مصر يسوقون أن الاقتصاد الأمريكى سينهار وفى غضون أعوام قليلة، والواقع أن الولايات المتحدة تمتلك اقتصاداً يوازى اقتصاد الاتحاد الأروربى مجتمعاً وضعف الاقتصاد الصينى، بل ويرى كثير من الاقتصاديين أنه أقرب للتعافى من الأزمة المالية الحالية عن أوروبا، رغم الانتقادات التى وجهت إلى الخطة الأمريكية لمعالجة أزمتها الأقتصادية، وذهب بعض الأقتصاديين وقتها على مقارنتها بخطة الاتحاد الأوروبى باعتبارها أفضل من نظيرتها الأمريكية، وتوتر العلاقات المصرية الأمريكية وتأثيرها على العلاقات الاقتصادية بين الدولتين يصب فى صالح دول أخرى فى المنطقة.
المشهد الرابع: يتعلق بالجانب السياسى للولايات المتحدة فى منطقة الشرق الأوسط، والذى بدى واضحاً أن الشرق الأوسط فقد أهميته لدى واشنطن، ولم يعد الخليج العربى المصدر الرئيسى للبترول فى أمريكا، والولايات المتحدة الآن مهتمة بالتواجد فى منطقة شرق آسيا حيث الكثافة السكانية العالية توفر لها سوق جيداً وتبادلا اقتصادياً أكثر فائدة من الشرق الأوسط بمشكلاته السياسية، وروسيا بالتنسيق الثنائى مع الولايات المتحدة سيكون لها دور أكبر فى المنطقة العربية وخاصة فى سوريا التى وقفت روسيا إلى جانب النظام فيه حفاظا على مصالحها الاقتصادية والسياسية، التى كادت أن تنهار لو أمريكا استطاعت أن تضع نظاما مواليا لها فى سوريا، وفى كل الأحوال فإن أمن إسرائيل ستضمنه الولايات المتحدة وروسيا وهو ليس محلا لخلاف بين الدولتين.
المشهد الخامس: ويتعلق بإيران وهو الأهم والأخطر من وجهة نظرى، قد يكون نظام الحكم فى إيران دينياً، لكن إيران كدولة هى أخطر دولة برجماتية فى العالم، وليس صحيحاً أن هناك تيارا إصلاحيا وتيارا محافظا عندما يتعلق الأمر بالأمن القومى لدولة فارس، فقد سوق نظام خامنئى لمرشح التيار الأصلاحى حسن روحانى من أجل أن يبدأ عملية التقارب مع الولايات المتحدة عندما تأكدت إيران من أن ضربها أصبح صعباً جدا الآن، وإيران تريد أن تستغل تردى العلاقات المصرية الأمريكية والحالة الاقتصادية والسياسية السيئة التى تعيشها مصر لتحتل دور مصر فى المنطقة، فإيران تخلت عن المشروع النووى وكسبت الهيمنة على المنطقة، والواقع أنه مخطط لايران شريك روسيا الرئيسى أن تلعب دور الشرطى فى منطقة الخليج العربى بتفاهم امريكى روسى، فأيران ترى فيها الولايات المتحدة شريكاً بديلاُ عن مصر التى يمكن أن تلعب دوراً ثانوياً فى المنطقة، كما أن روسيا تستطيع أن تتفاهم مع أيران أكثر من أية دولة أخرى فى المنطقة فهناك مصالح ومواقف مشتركة جمعت روسيا وإيران فى أوقات صعبة كثيرة.
فى النهاية فإن الاقتصاد ولغة المال هى التى تحكم عالم السياسة، بوضوح مصر مازالت تملك علاقة استراتيجية مع الولايات المتحدة بينماعلاقة مصر مع روسيا لا يمكن سوى أن تكون علاقة تكتيكية، لا شك أن الانفتاح على العالم خطوة إيجابية لكن ليس على حساب علاقة استراتيجية مع دولة بحجم الولايات المتحدة، التى يجب أن نعمل على إعادة الثقة فى علاقتنا معها، فإيران تتطلع لمكانة مصر مع الولايات المتحدة، ومصر لن تحتل مكانة إيران لدى روسيا.. والمستفيد دائما هو إيران.
* عضو الهيئة العليا ورئيس لجنة الاعلام بالوفد.